الدكتور سالم سرية يكتب عولمة الفساد

23 نوفمبر 2020
الدكتور سالم سرية يكتب عولمة الفساد

الدكتور سالم سرية 

يعتقد البعض ان اموال الفاسدين العرب المودعة في البنوك السويسرية يمكن استعادتها في يوم من الايام اذا ما رفعت السرية عن اصحابها.واكاد اجزم ان هذا الإعتقاد بعيدا عن الصواب .فالأموال المنهوبة لن يسترجع منها مليما واحدا كما سنبين أدناه:
تشاء الصدف ان تكشف الأسرار العلميه (الفني النووي الإسرائيلي فنونو )والاسرار السياسيه (ويكيليكس وسنودن ومؤخرا ايميلات هيلاري كلنتون ) والاسرار الإقتصادية (اوراق بنما ).وهذه الاوراق الاخيرة هي التي سأركز عليها من خلال كتاب هشام علام الذي افاض شرحا عنها كونه كان احد الصحفيين الإستقصائيين المشاركين في نشرها . (1)
فى يونيه من عام 2013 ، تأسس الموقع الإلكترونى للرابطة الدولية للصحفيين الإستقصائيين ( ICIJ ) ، وبدأ فى نشر بعض تلك المعلومات والوثائق ، فنشر حوالى 100 ألف أسم لكيانات وأسماء أشخاص وشركات تأسست بنظام الأوف شور OFF-SHORE ، تبعه نشر أسماء أضافية حتى قارب عددها بحلول عام 2017 حوالى 785 ألف أسم لكيانات وصناديق تمويل واستثمار وأشخاص فى أكثر من 200 بلد حول العالم . وتم الحصول على أكثر من 11.5 مليون وثيقة. ربما لا يمكن إدراك هذا الرقم إلا إذا علم أن تسريبات ويكيليكس التي ملأت السمع والبصر على مدار سنوات لم تبلغ 1 من الألف من حجم تلك الوثائق! “فأوراق بنما” بلغت ما نسبته 1529 ضعفًا من الحجم الذي وصلت إليه وثائق ويكيليكس، وأكثر من 788 ضعفًا لحجم الوثائق السويسرية التي تم تسريبها . على أية حال فشركات الأوف شور OFF-SHORE التى بلغ عددها بنهاية عام 2017 ، حوالى 500 ألف شركة على المستوى الدولى ، والتى تتوزع حساباتها الخفية على أكثر من 50 ملاذا ضريبيا آمنا ، بدءا من سنغافورة وهونج كونج والفلبين ، مرورا بجزر العذراء وجزر الكايمن الخاضعة للتاج البريطانى ، إنتهاء بجزر البهاما ومونت كارلو وقبرص ودبى وعشرات الملاذات الضريبية والمخابىء السرية للأموال المنهوبة من الشعوب المقهورة ، تبين أنها بقدر ما كانت مخابىء سرية لأموال الفاسدين والمحتالين والمتهربين من الضرائب فى بلدانهم ، فقد كانت ايضا وسيلة سحرية هائلة للأمبراطويات المالية الكبرى فى الدول الإستعمارية للسيطرة على تلك الأموال وقت الضرورة بحجج متنوعة ، بعضها قانونى ، والكثير منها سياسى . فما أعظم المال للسيطرة والتحكم فى أصحابها وتحويلهم تحت الضغط والإبتزاز إلى مجرد جواسيس أو عملاء فى بلدانهم لصالح هذه المراكز الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها. ان بيانات اوراق بنما هي بيانات أربعين عاما من العمل بين أصقاع الكرة الأرضية وأكثر من 210 ألف شركة وهمية في 21 منطقة ومقاطعة حول العالم).2)
اولا: ما هي شركات الاوف شور – offshore companies ( شركات خارج البلاد )؟ يطلق هذا الأسم على الشركات التى تمارس عملها فى بلد مختلف عن البلد الذي تأسست فيه الشركة وهذا بسبب إنخفاض الضرائب فى هذه البلاد . وتتميز شركات الأوف شور بالنسبة لأصحابها بالمميزات التالية :
1- أنها توفر درجة عالية من السرية فى ممارسة نشاط أصحابها ، فلا يحتاج الأمر تسجيل أسماء أصحابها فى الكثير من الأحيان .
2- أن رأس مال تلك الشركات ، أو الكيانات التى لا تعدو أن تكون مكتب أو شقة فى بناية فاخرة .
 3- تؤسس تلك الشركات أو الكيانات فى جزر أو أقاليم أو دول توفر لها ملاذات ضريبية آمنة، حيث لا توجد أستقطاعات ضريبية ، أو لو وجدت فهى متدنية للغاية لا تشكل أبدا عبئا على أنشطة هذه الشركات أو الكيانات التى قد تكون حركتها المالية تتعدى مئات ملايين الدولارات .
 4- بتأسيس هذه الشركات الشاذة فى هذه الدول الأجنبية ، تتحرك إلى المرحلة الثانية وهى الانتقال للعمل فى الدول المنهوبة ( أي الاقطار العربيه ) **، حيث يجرى معاملتها كشركة أو كيان أجنبى يتمتع بكل مزايا وأعفاءات وحصانات الاستثمار الأجنبى ضريبيا وجمركيا وفى حقوق العاملين التأمينية ، والأهم فى حرية دخول وخروج أموالها وأرباحها .
 5- غالبا لا تخضع أنشطة هذه الشركات الأجنبية للرقابة الجادة والحقيقية من الجهات المختصة فى البلدان المنهوبة ، سواء بسبب قدرة أصحابها على الولوج إلى دوائر اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية ، أو بسبب صلات قرابة بأصحاب السلطة التنفيذية والتشريعية ( كحالة الدائرة المقربة لكبار المسئولين فى الدول العربيه ) ، أو بسبب قدرتها على إغراء وإغواء المسئولين فى تلك الجهات الرقابية المختصة ( البورصة – سوق الأوراق المالية – هيئة الرقابة المالية – البنك المركزى ) ، سواء بتعيينهم بمكافآت ضخمة ، أو تعيين أبنائهم وأقربائهم أو غيرها من الأساليب .
  وتقسم مناطق الاوف شور الى اربعة مجموعات ( اوربية – بريطانية – امريكية – مناطق هامشية متفرقة )وتضم اكثر من ثمانون منطقة مختلفة حول العالم منها سويسرا ولوكسمبورج والنمسا وبلجيكا ودبى واورجواى والصومال والجابون وبعض الجزر المختلفة مثل البهاما ومارشال. وتقدر حجم ميزانيات بعض الجزر الصغيرة فى المحيط الهادى والهندى وجزر الكاريبي ب 18 تريليون دولار اي ثلث الناتج المحلي الأجمالى بالعالم كله .
ثانيا: ما هي شركة موساك فونسيكا الوارد ذكرها في اوراق بنما؟ هى شركة مقرها بنما ومملوكة ل جوردجان موساك المانى الاصل و رامون فونسيكا بنمى الاصل وتعتبر شركة موساك فونسيكا من اكبر أربع شركات على مستوى العالم فى مجال الخدمات القانونية فقد أسست وأدارت أكثر من 300 ألف شركة ويقع مقرها فى بنما وهى تقوم بأدارة اموال بالمليارات لشخصيات دولية ورجال اعمال وسياسين عبر تحويلها بأسماء مستعارة الى شركات مختلفة فى بلدان مختلفة للتمويه عن الشخصيات الحقيقية المالكة للأموال .اتخذت شركة موساك فونسيكا دولة بنما مقراً لها ، بسبب انها تعتبر دولة ملاذ ضريبي آمن بمعنى تنشط فيها عمليات غسيل الاموال وأخفاء الثروات فيكون من السهل انشاء شركات وهمية وحسابات بنوك وهمية بها . موساك فونسيكا هي شركة بنمية بالأساس، إلا أنها تدير أعمالها في كل أنحاء العالم، يتحدث موقعها الإلكتروني عن أكثر من 600 موظف يعملون في 42 دولة، كما أن لديها فروعًا في العديد من الدول، لاسيما تلك الدول التي تُعد “ملاذات ضريبية” بلا قيود على الادخار، مثل سويسرا، قبرص، جزر الكاريبي والجزر البريطانية (3و4).
ثالثا : ما هي عملية غسيل الأموال؟
هي عملية تقوم على تحويل الأموال التي تم كسبها بطرق غير قانونية إلى أموال نظيفة وقانونية عن طريق إخفاء وتغطية المصادر التي تم اكتساب هذه الأموال من خلالها باستخدام هذه الأموال في مجالات وقنوات استثمار قانونية.اما مراحل غسيل الأموال فهي تبدأ بعملية التمويه أو التعتيم بعد اتفاق بين الشركة التي تريد أن تغسل الأموال والتي تتصرف نيابة عن عميلها وبين المصرف، فيلجأ البنك لعمليات مصرفية معقدة جدًا إذ تفصل الأموال المراد غسلها عن مصدرها غير الشرعي من خلال نمط العمليات المصرفية المشروعة، ويقوم بعدها البنك بتكرار عملية تحويل تلك الأموال من بنك لآخر ومن شركة وهمية لأخرى من أجل أن يصبح تتبع تلك الأموال غير المشروعة أمرًا صعبًا، وما سهل الأمر هو عملية التحويل الإلكتروني للأموال حيث تنتقل الأموال بكبسة زر بين بنك وآخر وبين بلد وأخرى وفي بلدان يطلق عليها ملاذات مصرفية آمنة تتسم بتساهل قوانينها وجودة وسائل النقل من طائرات وسفن وسهولة تأسيس شركات فضلاً عن هذا كله تتبع قواعد صارمة من السرية في إيداع الأموال من حيث الاسم والكم، كما في بلدان الملاذات الضريبية الآمنة.
ومن ثم تبدأ تلك الأموال تدخل الدورة الاقتصادية والنظام المصرفي العالمي وكأنها أموال شرعية جاءت من مكتسبات طبيعية لصفقات تجارية، فتدخل الأسواق المالية من أوسع أبوابها فيتم إقراضها وشراء سندات سيادية وأسهم لشركات كبيرة حول العالم وعقارات في شتى أنحاء العالم، وبهذه المرحلة تكون وصلت عملية الغسيل لمرحلة معقدة جدًا من الصعب اكتشاف مصدر الأموال بعد كل تلك الدورة.
لا يعني ان كل من ورد اسمه في شركات الاوف شور في اوراق بنما هو فاسد طالما ان راسماله شرعي .ولكن شركة موساك قد تسللت الى هذه النافذه لتشرع غسيل الاموال القذرة(اموال المخدرات واللصوص والمرتشين …..الخ ).ويشرح هشام علام تفصيليا (ص25) الآلية المعقدة جدا التي برعت فيها موساك-فونيسكا ليس لطمس هوية الفاسد فقط وانما لجعل الوصول اليه بأدلة قانونية ضرب من الخيال .لذا عجزت عشرات اللجان الفنية والحقوقية التي كلفت باسترجاع الاموال المنهوبة للرئيس السابق حسني مبارك واولاده ان تسترد مليما واحدا منها وبالتالي برئهم القضاء المصري .وكذا الحال مع ثروة القذافي التي لم يعرف عنها شيء حتى الآن وكذا زين الدين بن علي والميرغني من السودان وعلاوي من العراق وهلم جرا (5). بكلمة مختصرة لقد قامت الدول الاستعمارية بتقنين الفساد المستشري في اوصال العالم الثالث .كما انها مثلت فرصه للضغط على كل الفاسدين في العالم (رؤساء وزراء ونجوم فنية ورياضيه وصحفية ….الخ لغرض ابتزازهم وتطويعهم لخدمة مخططاتهم . لقد هزت اوراق بنما العالم بأسره بدءا برئيس وزراء ايسلندا الذي استقال من منصبه ثم كاميرون مرورا بهولاند واخت ملك اسبانيا وصولا للهند واذربيجان والفلبين وروسيا والصين .وامريكا الجنوبيه وكوريا الشمالية…..الخ طبعا مع بعض الدول العربية .والانكى من ذلك ان شركة موساك فونيسكا قد برعت في الالتفاف على قرارات تجميد الارصدة وقرارات منع تصدير الاسلحة او تصدير النفط للدول والافراد.انها عبفرية اللصوص المحترفة .
الهوامش:
1-هشام علام – وثائق بنما- القاهرة، أَبْرِيل2017 . رابط التحميل kutub-pdf.net
2- كتاب الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالخالق فاروق: هل مصر بلد فقير حقا .رابط التحميل : http://assafirarabi.com/ar/
.(ونشر مقتطفات من كتابه (مصر المنهوبه على صفحته في الفيسبوك)
3-. شركات الأوف شور: ما العلاقة التي تجمعها بغسيل الأموال؟ نشر بتاريخ 06/04/2016
4- شركات الأوف شور.. خدعة النظام العالمي لتقنين سرقة العالم الثالث
5- مصدر سابق هشام علام ص33-41 ثم 41-49.
 ** وحول تشريع شركات الاوف شور في لبنان مثلا يمكن الرجوع الى :العدد 246 – كانون الأول 2005مجلة الجيش اللبناني
شركة الأوف شور https://www.lebarmy.gov.lb/ar/content/
إعداد: د. نادر شافي
اضافه لمصادر عديدة عاليوتيوب.