بين إنكار “الهولوكوست” وإنكار النكبة

23 يناير 2022
بين إنكار “الهولوكوست” وإنكار النكبة

لميس أندوني

نجحت إسرائيل في تمرير قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يلزم الدول الأعضاء باعتبار إنكار المحرقة النازية ضد اليهود في أوروبا جريمة. وهنا يجب الإقرار بأنّ هذا الإنكار يعبّر عن جهل بالتاريخ، أو عنصرية، أو ردة فعل مَن يرفض تحميل الفلسطينيين تبعات جرائم لا علاقة لهم بها، وإن كان الإنكار نفسه مُداناً ويضرّ بالقضية الفلسطينية. لكنّ سياق القرار المصاغ من دولةٍ تجسّد العنصرية وتمارس التطهير العرقي، من دون تحميلها مسؤولية جرائمها، هو في، أبعاده وتبعاته، غير أخلاقي، بل يقدّم غطاء للدولة الصهيونية للاستمرار في عملية اقتلاع الفلسطينيّ من أرضه، بشكل يومي ومنهجي، ومن دون رادع أخلاقي أو ردع دولي، يعطي فرصة للحكومات بتجريم التضامن مع الشعب الفلسطيني وكبت حرية التعبير، خصوصا أن نجاح إسرائيل في كسب التأييد لقرارها يرسخ دورها، حتى لو كان مزوّراً، كحامٍ أخلاقي لذكرى المحرقة في محاولة غسل خطيئتها الكبرى، في سلب الفلسطينيين من وطنهم وإنكار حقوقهم التاريخية.
في الوقت نفسه، يعكس إصرار إسرائيل على إلزام الدول بتجريم إنكار الهولوكوست قلق إسرائيل من تصاعد الحملات الدولية ضدها، حملات لم تنل الدعم الدولي الرسمي الكافي، لكنّها حركات بدأت تخرق الوعي العالمي، في كلّ المجالات والساحات، من دعم متزايد في الجامعات الأميركية والأوروبية لحركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس) إلى تحدّي أعداد متزايدة من نجوم التمثيل والغناء والتشكيل والرواية والشعر والمثقفين الرواية الإسرائيلية، وجهرهم بمساندة حقوق الشعب الفلسطيني، وإدانتهم إسرائيل بوصفها نظاماً يمارس الفصل العنصري (أبارتهايد)، وإسرائيل مدعومة من أميركا. وتتحرّك أيضا لسحب البساطين، القانوي والأخلاقي، من نضال الشعب الفلسطيني، ومن حركات التضامن العالمي مع قضيته.

الغرض الأهم لإسرائيل إغلاق أفق اعتراف دولي بالنكبة الفلسطينية أو إدانتها

الغرض الأهم لإسرائيل إغلاق أفق اعتراف دولي بالنكبة الفلسطينية أو إدانتها، ومن الاعتراف أنّ المشروع الصهيوني جريمة مستمرّة، تعمل على إلغاء هوية الشعب الفلسطيني وتراثه، فسرقة الثوب الفلسطيني بنزع انتسابه إلى هذا الشعب، إذ لا يحسّ بمحبة أنامل نساء فلسطينيات في كلّ قطبة، ولا بمعنى كلّ قطبةٍ موصولة بتاريخ شعب، وحقوله وعاداته وأعراسه والطبيعة حوله. وكذلك السطو على ملكية المطبخ الفلسطيني الذي لا يستطيع المستعمر الإسرائيلي سبر أغوار نكهاته وروائحه، إذ بثت فيه الأمهات والجدّات الفلسطينيات أنفاسهن وعصارة حبهن، وهو العَصيّ على من يحاول نهبه.
من هنا، يجب متابعة تبعات قرار الأمم المتحدة، حتى لا يجري تكييفه، كما تفعل المنظمات الصهيونية، لقمع كلّ تعبير للتضامن مع الشعب الفلسطيني وكفاحه وقضيته، عداءً للسامية، فمحاولة إسرائيل إضفاء هالة أخلاقية على نفسها، وإن لم تكن جديدة، يرافقها، كما نشهد في كلّ مكان، اتهام المتضامنين مع الشعب الفلسطيني بمعاداة السامية، وهذا يحمل ضمناً اعتبار قول الحق في جرائم إسرائيل عداء للسامية، وبالتالي، تحريضاً لارتكاب محرقة أخرى ضد اليهود، فأحد شعارات ما بعد المحرقة “لن نسمح بتكرار ذلك أبداً” أصبح ذريعة لتكملة فصول إبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

اشترطت الحركة الصهيونية لمساعدة الهاربين من جحيم الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال، ذهابهم إلى فلسطين

يجب أخذ قرار الجمعية العامة الإسرائيلي المصدّر بجدّية، والتصرّف بذكاء، فلا حكمة في مواجهته بمحاولة إنكار المحرقة أو التقليل من أعداد ضحاياها، فالمحرقة كانت واقعا. لكن، وهنا يجب التشديد والتأكيد، أن الفكر النازي استهدف اليهود، من منطلق عنصري قذر، يؤمن بتفوّق العنصر الآري، بناء على سلم يفرز الأعراق وموقعها من “الأنقى إلى الأقل نقاء” إلى “الأعراق الأدنى” ومن بينها الغجر وفي أسفلها السود والعرب وآخرون من أعراق العالم وشعوبه، فالحكم النازي في ألمانيا ارتكب محرقة ضد الغجر في كلّ أنحاء أوروبا، غير أنّ كتّاباً ومثقفين صهاينة رفضوا الاعتراف بذلك، وبالنكبة الفلسطينية، مثل إيلي ويسل الذي عاش ومات مكرّساً نفسه لذكرى الهولوكوست. والفكر الصهيوني في جوهره لا يقوم على مفاهيم أخلاقية، فقد تماهى مع الممارسات الكولونيالية الأوروبية، فكتاب مؤسس الصهيونية السياسية، ثيودور هيرتزل، “دولة اليهود”، تحدّث عن تقديمه حلا لما كانت تسمّى “المسألة اليهودية” التي كانت تعبيراً عن العداء للسامية التي رأت في اليهود عنصراً مختلفاً دينياً وعرقياً، لا مكان له في أوروبا “الحضارية”، فكان أن عرض هيرتزل فكرة إخراجهم من أوروبا إلى فلسطين لإنشاء وطن لهم، في مقابل أن يصبح هذا الكيان جبهة متقدمة “للحضارة الأوروبية ضد الهمجية” أي قاعدة للاستعمار الأوروبي الذي حلت مكانه أميركا في ما بعد، فلم تكن الصهيونية يوماً مشروعا تحرّرياً، بل هي مشروع استيطاني إحلالي بدأ قبل المحرقة، لكنّه استغل قباحة جريمة ضد الإنسانية وعذاب اليهود في معسكرات الاعتقال لتنفيذ جريمته الكبرى ضد أهل فلسطين.
في معايير إسرائيل ومن يؤيدها قد يُعرّض ما تقدّم أعلاه، لو نشرته الكاتبة بالإنكليزية، إلى اتهامات بمعاداة السامية، لكنّ ذلك يجب ألّا يمنعنا من تسمية الأشياء باسمها، من دون الوقوع في فخّ إنكار الهولوكوست، لأنّ ذلك لا يندرج تحت بند المقاومة، خصوصاً أنّ الحركة الصهيونية انطلقت قبل صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا، وإن استفادت الحركة الصهيونية من معاناة اليهود، حتى أنّها اشترطت مساعدة الهاربين من جحيم الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال في ذهابهم إلى فلسطين، وليس إلى جهة أخرى، إضافة إلى ابتزاز إسرائيل ألمانيا ما بعد النازية، ومراكمة صهاينة متنفذين الثروات، كما وثق ذلك بالتفصيل نورمان فينكلستين، في كتابه الاستقصائي “صناعة الهولوكوست” (ترجمة سماح إدريس، دار الآداب، بيروت، 2001).

ليس الموضوع نقاش تاريخ الهولوكوست، بل المطلوب تصعيد المقاطعة ضد إسرائيل، بكلّ سبل المقاومة

ليس الموضوع هو نقاش تاريخ الهولوكوست، بل المطلوب تصعيد المقاطعة ضد إسرائيل، بكلّ سبل المقاومة، ومنها شجاعة الفلسطينيين في البقاء على أرضهم، ومن ذلك أنّ وليد أبو صالحية قدّم نموذجاً شجاعاً يهزّ الضمائر ويلهم الأرواح، في معركته ضد هدم بيته، فلجأ المجرمون إلى اعتقاله وتدمير المنزل في عتمة الليل كما اللصوص، وهم ليسوا أكثر من لصوص أكثر حقارة، لأنّهم لا يسلبون الأموال فقط، بل الأرواح والأمل والأوطان أيضاً.
وإذا كان قرار الجمعية العام للأمم المتحدة، تجريم إنكار المحرقة اليهودية، المُصنّع إسرائيلياً، هجوماً إسرائيلياً، فلنتذكّر أيضاً أنّ فشلاً ذريعاً جرى في ألمانيا بعد ساعات من تمرير القرار، حين قضت المحكمة العليا ببطلان قرار البرلمان الألماني اعتبار مقاطعة إسرائيل مساوياً العداء للسامية، وهذا نصر كبير في قلب ألمانيا، وضرب لجهود إسرائيل في ابتزاز عقدة الذنب لدى الألمان بجريمة حقبة حكمٍ انتهت، لكنّ حملتها مستمرّة. ولهذا تدعو الكاتبة إلى التضامن مع صحافيات عربيات، ومنهن الأردنية فرح مرقة، اللواتي يتعرّضن لاحتمال الفصل من محطة “دويتشة فيله” الألمانية، تحت ضغط من منظمات صهيونية.
يوجد الكثير مما يجب وما يمكن فعله، وإن كانت الحلقة تضيق نتيجة عمليات التطبيع غير المسبوقة في حجمها وعمقها مع إسرائيل، فلا بديل من مواجهته، واعتبارها أولوية في مواجهة المشروع الصهيوني. ولنتذكّر أيضاً أنّ الممارسات الإسرائيلية تسارع في انكشاف النكبة المستمرة أمام العالم، كما أن إسرائيل ستتخلى يوما، وهو يوم قريب، عن المتصهينين والمطبّعين.