التربية إعداد للحياة، أم هي الحياة نفسها؟

16 نوفمبر 2021
التربية إعداد للحياة، أم هي الحياة نفسها؟

 

بقلم الدكتور محمود المسّاد

مدير المركز الوطني لتطوير المناهج

من بين حوارات التربويين الذين تعمقوا في الفهم لمعنى التربية، وأدركوا أهميتها ومترتباتها على المجتمع، وخطط التنمية، وتكوين رأس المال البشري، والحرص على منَعة الدولة وتحقيق ازدهارها، أن التربية هي الحياة، وليست الإعداد للحياة. وهذا يحتاج إلى التأمل وتقليب الأمور، باعتبار أن المعنيين مختلفون جدّا. فالإعداد للحياة يقتضي أن توظف كل إمكانات الحاضر من أجل المستقبل، وفي ذلك نقطتان سلبيتان: الأولى؛ هي أنك تضحي بالحاضر وحاجاته، والأخرى؛ أنك تعد لمستقبل قد يأتي وقد لا يأتي.

أما معنى التربية هي الحياة،

فهذا يعني أننا نتمتع بكل لحظات حياتنا، ونستعد لمتغيراتها ونتقن مهاراتها. وفي إطار هذا الفهم، فإنني أصوغ المُسَلّمة التالية لتكون مجال الحوار والتأمل: (التربية هي الحياة نفسها، وليس الإعداد لحياة قد تأتي). وهنا لا بد من إثارة التساؤل المهم الآتي:

كيف تكون التربية هي الحياة؟

وللإجابة على هذا التساؤل، أقول: تكون التربية هي الحياة عندما تستوعب معارف العصر الذي تسود فيه وتتفاعل تأثرًا وتأثيرًا مع ناسه وأشيائه، وتنتقل بمعارفها إلى مرحلة متقدمة مبدعة، قابلة للابتكار والنشر والمنفعة، بما ينعكس على أفكار الآخرين، وتقديرهم لها، واحترامهم لنضجها وتحوطهم لعوائدها على الأفراد والمجتمع. وعليه:

فالمحتوى المعرفي المطلوب تعلّمه للحياة الناجحة يشتمل على المنظومة الآتية:

المعرفة الأساسية (المحتوى).

المعرفة العابرة للمواد الدراسية (المفاهيم).

المعرفة الرّقْمية.

وهذه المنظومة جميعها ترتبط بالحياة المعاصرة، لا بالماضي ولا بالمستقبل. فهي إذن، ليست موادّ دراسية مصنّفة إلى لغات وعلوم اجتماعية ورياضية…إلخ. بل هي مجموعة مفاهيم مترابطة تعكس قضايا ومشكلات ترتبط معًا بعدد من مجالات العلوم المختلفة. وهي مفاهيم عابرة لكل حدود، عابرة لحدود مادة دراسية معيّنة، حيث ترتبط بمواد عديدة أخرى، وعابرة لموقف صفّي أو مدرسي، حيث تعبُر به إلى مواقفَ حياتية أخرى داخل المدرسة وخارجها، وعابرة لأي مصدر تعليمي إلى ما يُشكّل شبكة ترتبط بها المصادر التعليمية الأخرى كافة، وعابرة للمعلمين الرسميين، حيث تعبُر بهم إلى مصادر التعلم البشرية الأخرى جميعها.

وهذه المعرفة معرفة غائيّة وليست وسيلة بحدّ ذاتها، تثمر وتؤتي أكلَها نتيجة المحاكمة العقلية الفردية أفكارًا مبدعة، وتتحول نتيجة حوارات العقول إلى ابتكارات واختراعات. بمعنى أن هذه المعرفة ترتبط مباشرة بحياة الشخص وقدرته على النجاح في عالم المتغيرات. وتوظيف هذه المعارف المُتعلّمة في مجالات الحياة المختلفة، حيث ينتقل بها الفرد من معرفة ماذا، إلى معرفة كيف. ومعرفة كيف تعني: القدرة على تطبيق ما تعلمناه مثل:

مواجهة المشكلات والبحث عن حلول لها عبرَ قواعد الابتكار والتجديد والتحسين.

إنتاج المعارف الجديدة، وعدم التوقف عند معرفة واحدة. فالمعرفة الحقيقية هي ما تقودك إلى عوالم جديدة ومعارف جديدة.

بناء نموذج حياة شخصية قائمة على معارف العصر، وما يمكن أن تتخيله مستقبلًا.

تعليم المرونة والتغيّر والتجديد وتعلّمها، وسهولة الانتقال من وضع إلى آخر، والتواصل مع أي جهة ذات علاقة.

هذه الدرجات من التعلّم المتمثّل بوعي المحتوى الأساسي، ومعرفة المفاهيم واكتساب المهارات وتوظيفها تقود إلى الدرجة الأعلى أو الأسمى، وهي: الحب الإنساني، وفهم العالم، والقدرة على تقبّل الأحداث بإيجابياتها وسلبياتها. فمن يصل إلى هذه الدرجة سيدخل في المستقبل المطلوب، قبل أن يجيء هذا المستقبل ويفاجئنا بحلوله! إذن، التعلم هو الحياة، هو من يُعدّك لمستقبل غير زمني، مستقبل تعيشه كل لحظة، هذا المستقبل، هو الحياة التي نعيشها، وليست الحياة التي سنعيشها.

إن إتقان مهارات المستقبل هو عبث يمارسه الخيال، فلا يمكنني في العصر الرقمي السريع أن أصمّم مستقبلًا حسب الطلب، فأنا قادر على تصميم مستقبلي معتمدا على مرونتي اليومية وتعلّمي اليومي، حينها سأكون مستعدّا لكل مستقبل، ولن يفاجئني مستقبل لم أعدّ له. ولن يفاجئ الطلبة أن يعيشوا في زمان غير ذلك الذي أُعدِّوا له!!

في ظل هذا الفهم، تصبح الكثير من المفاهيم قابلة لتغير الأفهام نحوها، فقراءة المستقبل، واستشرافه والتحوّط لمتغيراته وتحدّياته تصبح من أجل فهم الحاضر وتوجيهه نحو المستقبل الممكن، وليس من أجل تخيّل المستقبل والتحكّم في صياغته وتشكيله كما نريد. ومع أن هذا ممكن لمن بيدهم كل الخيوط على مستوى العالم، إلّا أننا نتحدث في الإطار التربوي التعليمي لعامة الناس وعيشهم الآمن الناجح.