ومضات في قاع المدينة

27 أكتوبر 2021
ومضات في قاع المدينة

بقلم : الكاتبة فايزة عبدالكريم الفالح

منذ عام قد أنقضى ، انتظرتكِ ، تقولُ لي: الكنبة المنفردة ، تُعاتبني أهجرتني وتركتني منفردة ؟
أُقاسي الليالي غريبة عن باقي الأشياء ، أُقاسي المساحة الشاسعة من حولي ، ولم أكن أعلم بأن إتساع مساحتي فضفاضة عليَّ إلا حينما هجرني دفء جسدكِ وجلستكِ المنضبطة تلك التي طالما أنفردتِ بها أنا وحدي دونا عن أشباهي من أشيائكِ العزيزاتِ ،فكم أعتدتُ على ألتصاق ذراعيكِ على يَدَيَّ ونقر أناملكِ حين كنتِ تكتبين، ربما لا أفهم لغة البشر ولكن كان يكفيني بأن أشعر بهِا من خلال دفئها مما يجعلني أغبط حالي كوني كنتُ المحظوظة بأني كنبة منفردة و متفردة بكِ …

اغرورقت عيناي حتى أمتلأت دموعا حينما شعرتُ بأن هنالك ثمة شيئا افتقدني بعد غياب عام طويته على سجل السنين ،كان صيفي محملا بالضحكات الممزوجة بالقهقهات أحيانا،وبالدموع من الألم احيانا كُثر ها أنا يا أنا أعودُ مثقلة بالألم والأحزان دون الفرح الذي كان يشق شفتاي بالإبتسامات العريضة ، والضحكات التي ملأت سماء وأرض شتائي وصيفي المنصرمين من عامي ذاك ،عدتُ لا شيء معي سوى صرخة ما زالت حشرجاتها وحركاتها قابعة تحت ضلوعي ، وكأنها بركان تَصَعَّدَ فوهة روحي رغم إدعائها بالسكون …

وما إن جلستُ وأَخَذَت جلستي مكانها الصحيح على كَنَبَتي المنفردة، في مسائي الكانوني بعد عمل نهار طويل،من تنظيف بيتي الصغير ، ونفض الغبار عن كل أشيائي العزيزاتٍ، والغصة في داخلي أكبر من سماء حبات الغبار المتطايرة هنا وهناك ،وكأني أنفض معها ذكريات طالما عَلِقَت فوق كل ركن منها ،وكم وددتُ بأن تبقى حبات الغبار تلك المنسجمة زمانا ومكانا داخل مساحة الزمن في روحي !! ، حينها شعرتُ بأنه آن الأوآن لتناول كوب من الشاي والذي لم يتباطئ دفئه، من برودة الطقس، ومع أول رشفة منه جذبني المشهد الأخير من مسلسل (الملك فاروق) حين تنازل عن عرشه وصولجانه دون إراقة نقطة دم واحدة ….

حينها تبادر بذهني سؤال : كيف تنازل عن إرث عظيم وقد كان أخر معقل للبطل_ محمد الفاتح _ بكل سهولة ؟ حيث كان بمقدوره بأن يستعين بقوة خارجية من إحدى الدول العظمى؛ لإبقائه على عرشه، كما فعلت بعض زعامات الدول العربية مؤخرا ، من أجل الحفاظ على صولجانهم غير أبهين بمصلحة شعوبهم وبلدانهم !! ، وما إن انتهى المسلسل، تبسمتُ مع همس أكادُ أن أسمَعَهُ، ها هو الملك فاروق يُوَّدِع عرشه متخليا كرسيه عنه ، في حين ما زالت كَنَبَتي المنفردة البسيطة قابعة مكانها لم تتخلى عني !! ، هي الأيام دول . وإن لم تتشابه الكراسي …

يبدو لي بأنه مساء حافل بتَجَرُّعَات غُصَص الغيظ حاولتُ التملص منها بالعودة إلى عشوائيات بقاع المدينة وكأني أريدُ حزم المكان بحقيبة الزمن والوقوف أمام مرآة المكان بوسط قاع المدينة الحزينة والمشهد أكبر من مساحة التخزين بالذاكرة ،هناك حيث الإياب والذهاب للمارة وخُيِّلَ لي المنظر وكأن قرع خطى فتى نابليون عمان قادت كل قرع خطى المارة هناك ، الكل يسير على إتجاه العبور من ..إلى … وإلى أين…؟ومن إين .. ؟ هي خُطاهم وحدها من تستطيع تحديد الوجهة التي يردونها …

وقفتُ متبحلق وجوههم على مضض ففي قاع المدينة عشوائيات تشبه عشوائيات روحي،ولكل منا عشوائيات بداخله فوضوية هاربة من رتابة الحياة، ففي قاع المدينة الحزينة جرني مشهد طفلة صغيرة ربما لم يتجاوز عمرها السادسة،تحمل بيدها الصغيرة مجموعة متنوعة من العلكة باخسة الثمن،وبراءتها تسبقها للمارة تطلب منهم بإلحاح مصاحب بالدعاء لهم ؛ لكي تجبرهم على شراء بعض حبات من العلكة،وما إن يحالفها الحظ بالقيام بأحد المارة بالشراء منها حتى جاء طفل مسرعا وقف بجانبها أيضا هو يبع ولاعات من الغاز ، راجيا نفس الزبون بأن يشتري واحدة منه وما أن لبى رغبتهما بالشراء منهما تبسما وعادا كل واحد منهما لمكانه ينتظران زبونا جديدا،هو توزيع الأدوار بجدارة مَن كان البطل الوحيد في هذا المشهد ….

وهناك وليس ببعيد عني نظرتُ إلي إمرأة عجوز وجهها يطفح بالحنان ، تجلس على قارعة الطريق تلتقط أنفاسها يبدو إنها متعبة بعد قضاء حوائجها من المشتريات،تحاول تنضيمها حتى
تستطيع حملها،وما إن وقفت حتى سقطت محفظتها الصغيرة منها وما إن شَعَرَت بها ألتقطتها وأخذت تتفقد ما بداخلها ويداها ترتعش وكأنها توحدت مع رعشة قلبها خوفا بأن تكون فقدت إجار طريق العودة ، هو الدينار مَن كان البطل الفعلي في هذا المشهد والذي هو وحده مَن يستطيع حملها إلى وجهتها،ليست الحافلة …

تابعتُ مسيري ببطئٍ شديد حتى أستطيعُ عبور أزمة المارة والخروج من بينهم،وكان يسيرُ بمحاذاتي جنديا شابا، سمرته أزدادت قتامتا من لفح أشعة الشمس ،تراءى لي من مظهره بأنه ألتحق بالتجنيد العسكري مجددا كان يسير مهرولا، والشوق يسبقه حين وقف عند أحد باعة الحلوى والسكاكر؛ ليشتري منها أشكال متنوعة، ويقول وهو مبتسم للبائع : توصى بالحجة، ربما كان يقصدُ والدته،يبدو أن شوقه لها يسبق خُطاه أزدهاني المشهد ، فمنذ زمن لم نعد نرى رجال حماة الوطن وهم يرتدون بِزَّاتهم العسكرية التي طالما كانت تضفي هيبة ومنعة للمكان وكم كنا نشعر بالأمان حينما نراهم صباحا مساءً بمختلف مرتباتهم العسكرية،هو الجندي وحده مَن كان بطل الذاكرة على مر الأزمان

وهناك على مضض أغمضتُ عيناي على سر الزمن حينما وقفتُ أمام كشك صغير للكتب والمجلات بمختلف مسمياتها العلمية المتنوعة والذي كان يحتل المكان والزمان قاطبة ، هنا كنتُ كل صباح ألقي التحية على العجوز الأفريقي صاحب الكشك،تحية المراد منها تجديد عهدا قديما طالما كان يعج بقلبي لكل كتاب ، وكأن السر مازال يحوم حول جنبات المكان وإذ بالمكان تخلى عن وجوده حينما سمح للزمن أن يسرق منه حكاويه اليانعة هو الكتاب وحده مَن كان سر العجوز الأفريقي دون منازع …

ما إن أخذتني العَبرَة حتى أحتلت مكانها الدهشة حينما تَسَلَلَت نظراتي خِلسة مِن الخجل إلى سائحين إبريطانيين،رجلا يرتدي شورت قصير ،و كان يضع على رأسه الشماغ الإردني والذي بدا لي بأنه أمتزج مع لون بشرته الحمراء ، بينما كانت صديقته أيضا تضع الشماغ على عنقها الطويل وشعرها الذهبي يلتف حوله،في حين كان المقهى الذي بالجوار يضع بعض من الأغطية على طاولاته مصنوعة من الشمغ، البطل الوحيد في هذا المشهد هو سخرية الأيادي في العقول …

قرب وشوف .. عبارة كان يرددها الطائر الببغاء مرارا وتكرارا من وراء صاحبه، طائر عُلِّمَ منطق الإزعاج ؛ لجلب الزبائن للبسطة التي كان عليها بعض من أدوات الخدع والحِيَّل ،وكأن الزبائن يحبذون الخدع والحِيَّل عن الحقيقة ..أصبح الكذب سلعةسهلة ، والخداع يُشترى بأبهض الأثمان، ولكن كان عذرهم هو بأنهم يبحثون عن ما يرضي مرادهم من أحلام وأمنيات لم تتحقق بعد .البطل الوحيد في هذا المشهد هو الكذب.

تابعت مسيري، ولكن هذه المرة على عجل،وكأني أريد الطيران ؛ لأحلق بعيدا عن وجوه تمتلئ ملامحها بالزيف والخداع .. وجوه بالحقيقة ماهي إلا مرآة تعكس ما في تلك العضلة التي تسكن ضلوعهم الخشبية، المتأكلة بالعثِّ، مشيت أتبع خُطاي كما حال كل الذين من حولي لعل خطواتي تسبقهم ؛ لتقف قدماي عند مكان أستحضر به الزمن ، وأستحضر الذاكرة بالحنين ، نعم قد نلت مرادي حينما وقفت عنوة عند سوق الذهب بقاع المدينة هنا كنتُ وصويحباتي نقف ، أجتمعت الأجساد والأرواح معا دون أن تجتمع الغايات، فلكل واحدة منا ما يجذب نظرها لغايتها، ولكل منا حديث خاص مع النفس ، هنا كان المنظر مهول،وكأن الشمس سكنت سوق الذهب ومرايا واجهاتها تعكس بريق الذهب بكل الإتجاهات مع وهج أشعة الشمس، إنه الذهب الذي أذهب البصر عمن سواه ؛ ليجذب أنظار كثير من المارة هناك ..

وهنا برحن صويحباتي طويلا أمام واجهات الذهب الزجاجية ، ينظرن إليه متأملات ربما خاتم الميثاق
الغليظ، يتخيلن فارس الأحلام كما وكأنهن يعشن قصة ساندريلا، أو ربما قصة الأميرة النائمة ، هو حق مشروع ذاك الحلم لكل واحدة منهن ، وما إن وقفتُ معهن لهنيهة من الزمن حتى ساقتني قدماي للمكان الذي أحب ، أيضا هو حق مشروع لي بأن أقف حيث تريد رغبتي وغايتي وقفتُ عند سوق الكتب أنظرُ إليها تارة ، وأتلمسها تارة أخرى ، وأتصفحها مليا وأحدث نفسي بحلمي المنشود بأن يكون لي يوما ما كتاب مُوَّقَع بإسمي ما بين هذه الكتب ، وكم كنتُ بغاية السعادة ، بأني أستطعتُ لمس الشيء الحي أعني (الكتب) بكل حواسي المحسوسة والملموسة معا واستطعت تلبية رغبة النفس من المراد ، أما صويحباتي العزيزات ربما أكتفن بالنظر لذاك الشيء الفاني أعني (الذهب) دون أن يتلمسنه،ولكن هن أيضا أستطعن تلبية رغابتهن بما دار من حوار مع أنفسهن وما زال البطل الأوحد هنا في هذا المشهد هو الحق المشروع لكل حلم لم يتحقق بعد وهنا فقط أغمضتُ عيناي كليا على حلم بداخلي ؛ لكي يراه الفؤاد فلم تنتهي العشوائيات في قاع المدينة الحزينة بعد ولم تنتهي عشوائيات أرواحنا في قاع أحلامنا المتعبة بعقر الساعة المنسية .

وبحركة غير إرادية مني أفقتُ على صوت رسالة نصية من الهاتف ، وعلى مضض توقفتُ عن الإبحار فى الذكريات ما بين شد منها على عتبات الحنين ، وجذب الفضول لمشاهدة الرسالة النصية تلك والتي مر عليها مِن الوقت نصف الساعة ، فما إن عَدَّلتُ جلوسي جيدا وتناولت الهاتف المحمول حتى أرى الرسالة والتي كان محتواها : لقد تم إختيار رقمكِ وفاز في السحب معنا على حصولكِ بمجموعة مِن المنتجات الطبيعة للعناية بالجسد ، وهنا ضحكت كثيرا حتى دون أن ألملم القهقات المصاحبة بالدهشة !!!

فما شعرتُ بنفسي حتى رددت على الرسالة بكلمات ،أيها الأوغاد أليس فيكم بطلا ، فليأتني ليحدثني عن الخسارة ، فأنا لم أعتد الربح يوما ، وما إن ضغطت على سهم الإرسال حتى جاءني الرد فورا ؛ فشل الإرسال، ههههه يالا طعم الفشل !! يبدو بأن حٌزم النت قد أنتهت .