الوُزراء من خُدامٍ للشعبِ إلى خُصومٍ للمُواطنين في المحاكمِ !

3 سبتمبر 2021
الوُزراء من خُدامٍ للشعبِ إلى خُصومٍ للمُواطنين في المحاكمِ !

أ. د محمد تركي بني سلامة

في تَحوُلٍ غريبٍ ومُفاجئ في تاريخِ الدولة الأُردنية التي دخَلت المِئوية االثانية، ثمةَ ظاهرةٌ غيرَ مسبوقَة وتُنذِرُ بِعَواقبٍ وَخيمةٍ وهي :أنّ رِجالَ الدولةِ أصغَرُ بِكثيرٍ من المَواقعِ التي يَشغلونَها؛ فيدفَعُ الجميعُ (الدولةُ والمجتَمعُ) كُلفَةَ هذا النوعِ من المسؤولين، وهي كُلفَةٌ عالِيةٌ .

عِندما ننتقِدُ وبِدونِ تَحامُلٍ تَراجُعَ الأوضاع العامة في البلاد ؛حيثُ أنّ واقعَ الحالِ لا يُطَمئِنُ ولا يَبعَثُ على الرِّضا ؛:فإنَنا نُمارِسُ حقًا كَفِلهُ الُدستورُ وقَبِلتَهُ الشرائِعُ السماويّةُ والمَواثيقُ الدوليةُ ، وانتِقادُ الحُكوماتَ أو السُلطاتَ العامة على أدائِها لا يُمكِنُ اعتبارَه مُخالفةً أوجريمةً تحتَ أيِّ ظرفٍ كان.

بعضُ الوُزراءِ في هذه الحكومةِ وغيرها من حكومات أثبَتوا بأنّهُم وِزرٌ على الوطنِ وأبناءِهِ ، وقدَموا نماذِجَ غريبةً وبائِسةً جمعَت بين التَوجُس خيفَةً من المُواجَهةِ والإِقدام ،والغضَب من النَقدِ ،والانزِعاج من كُلِ صَوتٍ لم يعتَد التطبيل ،والتسحيجَ لإنجازاتٍ وهميَةٍ ليست أكثَرَ من كلماتٍ تُلقى مِن أفواهِ المسؤولين وتذروها الرَياحُ !

هذا الصِنفُ من الوُزراءِ أربَكَ الحُكومةَ، وكُلَ مُؤسسات القَرارفي البلادِ . إذ يَقفُ خَصمًا للمُواطنِ ،ويسعَى وراءَ المُجاملات ويلهَثٌ من أجلِ المَديح والثَناء ؛ دونَ أن يكونَ لهُ أيُ دَورٍ مشهودٍ فَي إيجادِ حُلول لِمشاكل بسيطة يواجِهُها المواطن اّلذي تَحوّلَ إلى خَصمٍ للمَسؤولِ ؛ فكيفَ سَنُصفِقُ للفاشِلِ؟

 لا نُريدُ أن نُقارِنَ هذا الصِنف من الوزراء لا من حيثِ الأداء ، ولامِن حيث العقلية مع مَنْ سبقَهُم مِن وُزراءٍ أومسؤولين ماكانوا يتحرَجونَ من أيّ انتقادٍ مُوّجهٌ لهم ، ولم يقوموا بتقديمِ أية شكوى في المَحاكمِ ضِدَ المواطنين الّذينَ انتقدوا أداءَهُم للمَهامِ المَنوطة بهم .

أتذَكرُ واقِعةً طريفةً ذاتَ دلائِل كبيرة في هذا المَجالِ حدثَت معي شَخصِيًا في مُنتصَفِ التِسعيناتِ من القَرنِ الماضي .حيثُ كنتُ أعمَلُ مُعلِمَ مَدرسةٍ في احدى بلدات لِواء الكورةِ، وفي الوقتِ ذاتَه كنتُ أدرُس ماجستير في الجامعة الأردنية في عمان ،وكنتُ أَجِدُ صُعوبةً في الانتقالِ ما بينَ الجامعة ومكان العَمل. كانَ وزيرُ التَربيةِ والتَعليمِ حينَها السيد عبدالرؤف الروابدة ،وكانَ قَد خصصَ يومًا في الأسبوعِ لِمُقابلة المُواطنين واللقاءَ بِهم والاستماع لمطالبهم ؛ فذَهبتُ لمقابلته لِأَطلُبَ مِنه نقلي إلى عمان؛ لِيكونَ مكانُ عملي قريبًا من الجامعةِ التي أُكمِلُ بها الدراساتَ العُليا؛ لكنّ طلبي قوبِلَ بالرَفضِ ،حدثَ على أثرهِ مُشادةٌ كلاميةٌ بيننا انتهت بأخذِهِ الاستِدعاءَ الّذي كنتُ قد كَتبتُه له مُتَوِعِدًا إيايَ بِمُحاسَبتي ؛فَقُلتُ في قَرارَةِ نفسي سَأنالُ عُقوبةً أَقَلُها الإنذارُ ،وتوقعتُ ماهو أعلى مِنه ؛ إلّا أنه لَم يَفعَل شيئًا ،ولم يَتَخِذ أيّةَ عُقوبة بِحقي .

 إنَ اقدامَ الوزير أوأيَّ مسؤول يَشغَلُ وظيفةً عامةً في الدولةِ على تَسجيلِ شَكوًى بِحَقِ مُواطنٍ بسيطٍ ،هي بِنظَري سُلوكياتٌ تُؤَكِدُ رعونة وضَعفَ وهَشاشةَ وغُربةَ وإنعزالَ هذا النوع من المسؤولين عن الناسِ، وِبالنتيجة بناءَ حواجِزَ بينَ المُواطنِ والمَسؤول، فلا يشعُر بِمُعاناتِهم ولايدري بِأنَ حجمَ الوَجعِ اللامُطاقَ الّذي أَثقلَ كاهِلَهم ، فسلب كرامتهم ، واغتصب انسانيتهم ، و باتَ يَدفَعُ بِهم نحو الانتِحار في وَقتٍ كانوا بِحاجةٍ لِمَنْ يُصغي لَهُم فقط ! او مَنْ يُشارِكهم همومَهم مِمَنْ هُم في موقعِ صُنعِ القرار القابِعينَ خلفَ جُدرانٍ أوجَدوها لِتكونَ حِصنًا لهم بعيدًا عن المواطِنين لايِصِلُ إلَيهم إلّا أصواتُ النَقدِ على التقصيرفي أداءِ المَهام ؛ لِيخرُجوا مُسرِعينَ صَوبَ المَحاكم وتقديمَ شكوًى بِحقِ مُوَجِهَ هذا النَقد الّذي أَرّقَ عُزلَنتَهُم وانعِزالَهُم ! وكيف سيقف الوزراء مثل المشتكى عليهم امام القضاة في المحاكم ام ان الوزراء يقدمون شكاويهم ويدلون بأقوالهم عبر الهاتف ؟

  يَكمُنُ الخَللُ في كثيرٍ مِنَ المسؤولين الّذين لم يَرتَقوا إلى مُستوى الِثقة الملكية؛ في انهم لا يدركون انهم لا يختلفوا عن غيرهم من المواطنين ولا يعترفوا انه لو طبقت معايير الكفاءة والعدالة والجدارة والاستحقاق فان كثير منهم لن يكونوا في مواقعهم التي وصلوا اليها ، ونعرف من اين اتوا وكيف وصلوا ، ولذلك لا نتفاجأ بتصرفاتهم ، فبدَلًا مِن أن يَرسُموا بسمةً على الشِفاهِ نَجِدُهم مَصدرًا لِلحُزنِ والغَضبِ والتَوتُر، وهذا أَمرٌ في غايةِ الأهَمية يلعَبُ دَورًا حاسِمًا في مَصيرِ الحُكومات والمسؤولين الّذين نالوا ثِقةَ الملك ،ويُتَوقَعُ مِنهُم أن يُقَدِموا أمثِلةً مُتميِزةً في العَطاءِ والتَسامُحِ، والتَرفُعِ عن صَغائِر وسفاسِف الأُمور انسِجامًا مع الرُؤَى والتَوجيهات الملكية أولًا ،ومَع هَيبة المَقام أو الوَظيفة العامة ثانيًا ، ومن كان لديه ادنى شك في ذلك ، من اصحاب المعالي والعطوفة والسعادة ، عليه ان يعلم انه مهما تطاول لا يصل الى ، ، ، جندي على التخوم او احد العيون الساهرة على امن الوطن او مزارع يحرث الارض في كانون الثاني او طبيب ينقذ حياة عشرات المرضى .

إنني أُصَدِقُ كُلَ شيءٍ في هذا الزَّمن الأغبَر؛ إلا أن يَتحوّلَ المَوقعُ العامُ إلى وَسيلةٍ لِلإستِقواء على المُواطنِ، وأنَّ وزيرَ الّزراعةِ يُقَدِمُ شَكوَى ضِدَ المُزارع الأردني معاذ وحشه ؛لأنّهُ تَجرَأ وانتقَدَ أداءَه ،وأنا العارِفُ بِمُعاذ وحشه وظُروفِه حيثُ لم يكتُب ماكتَبه على صَفحَتهِ ؛ إلّا بَعدَ أن ضاقَ ذَرعًا من تَصَرُفاتِ بَعض مُوظَفي الوِزارة المُتَواتِرة ،ونفدَ صبرَهُ عَلَيها ، وهو نموذج لألاف من المواطنين الذين يعانون من صلف مسئولين بلا ضمائر اكثر من معاناتهم من مرارة العيش .

خِتامًا لِيَعذُرَنا الوزراءُ،وكُلُ مَسؤولي الدولةِ بِأن قَسوْنا عَليهِم حينَ انتقدَنا أداءَهُم ،وإنْ كانَ نقدًا هادِفًا وبنّاءً بعيدًا كُل البُعدِ عن الإساءةَ ،وخالٍ من كُلِ تَجريحٍ ؛ فما نَقدُنا إلّا بِمَثابةِ البوصلَة المُرشِدة إلى الصّوابِ وحُسنَ الأَداءِ لا أكثَر ،وكُلُ ذلِكَ من دافِع الغيرةِ على الوطنِ ومصلَحتهِ في سبيلِ النُهوضَ بهِ ورِفعَةَ أَبناءِه (الرَكيزَةَ الأساسيةَ ) لِلبناءِ والتَقَدُم ! ولِيَعلَموا أن شَكاويهم على المُواطنين أُمورغريبة على مُجتَمعِنا ،وتاريخِنا ونَهج الهاشِميبن في الحُكمِ، وتَضُر بِصورَتِهم داخليًا وبِصورَة الأردن في المَحافلِ الدولية ، فقليلا من الحياء يا اصحاب المعالي ورجالات الدولة ، ورفقا بالمواطنين ، هدانا الله واياكم لما فيه الخير والصلاح والاصلاح.