وداعاً.. إلى اللقاء…!

13 أغسطس 2021
وداعاً.. إلى اللقاء…!

حسين الرواشدة

أغادر « الدستور « ‏مهاجرا إلى « الغد «، قلت في نفسي : هل أودع مؤسستي وزملائي والقراء الأعزاء، أم اكتفي بالصمت على أمل ان نلتقي – كما كنا كل يوم – على مقال جديد، لحظة الانتقال صعبة، لكنها ضرورية لخوض تجربة جديدة، في بيت الصحافة الكبير قد يكون الانتقال من صحيفة إلى أخرى كالانتقال من غرفة إلى غرفة مجاورة، وقد تحتاج أحيانا إلى شرفة تطل منها على جهات جديدة، أو إلى « تأثيث» المكان لتستعيد ما فقدته من نشاط ودهشة وحيوية.

صحيح، يعزّ علي ان اخرج من « الدستور « وقد أشرفت على نهاية العقد الخامس، بعد ان دخلتها في مقتبل العمر، وعشت فيها نحو نصف سنوات عمري، ‏احمل في ضميري ووجداني « فضل « هذه المؤسسة العريقة وأساتذتي الكبار الذين تعلمت منهم المهنة، بأخبارها وأخلاقياتها، لكن الصحيح أيضا إنني انتقل إلى مؤسسة عزيزة هي» الغد «، هذه المدرسة التي أضافت الى مهنة الصحافة « انفاسا « جديدة، ‏ويسعدني بالطبع أن أكون واحدا من أسرتها الكبيرة، ومنها أقدم أوراق اعتمادي لقرائي الأعزاء، لا شيء يطمئن الكاتب على سلامة أفكاره والتزامه بما يمليه عليه ضميره المهني سوى القارئ، فهو بمثابة الاستاذ الذي يصحح ورقة امتحانه، ويضع في أعلى الورقة الدرجة التي يستحقها، ووسم الرسوب أو النجاح.

سأبقى مدينا لصحيفة « الدستور « بالتقدير والاحترام، ‏فلولا أنها فتحت لي أبوابها لبقيت الصحافة، وكذلك الكتابة، بالنسبة لي مهمة صعبة أو حلم قد لا يرى النور، لا يجوز لأحد أن يقايض مؤسسته « الفضل «، فللمؤسسة – اية مؤسسة ناجحة – الفضل عن كل ما ينجزه العاملون فيها، تماما كما هو الفضل للوطن عما حققه أبناؤه من إبداعات، وللدولة عن كل ما وصل إليه الذين تبوؤوا مواقع المسؤولية و تصدروا المشهد العام.

على مدى عقدين ونصف من الكتابة في العزيزة « الدستور « ، حاولت أن أكون في جبهة الدفاع عن قضايا الناس وهمومهم، وأن ابحث عن الحقيقة، وظيفة الكاتب الاساسية أن يمثل ضمير المجتمع ويعبر عما يدور فيه، وعن ما يعجز غيره عن الحديث عنه، ربما أخطأت أحيانا، ولكنني سارعت إلى الاعتذار، حدث ذلك أحيانا، دون ان اشعر بالحرج من الاعتراف والتراجع، وأن أنصف من أخطأت بحقه، ربما واجهت ضغوطات، ومنعت مقالاتي من النشر، حدث ذلك أيضا، لكنني لم اتزحزح عن قناعاتي وعن منطق « الحكمة والتوازن « الذي اخترته عنوانا لحياتي المهنية.

رضا الناس – بالنسبة للكاتب – غاية لا تدرك، لكن رضا الضمير هو الأصل، ‏والمهم أن يحافظ الكاتب على رؤيته ويبقى مخلصا لمهنته وقيمها وأخلاقياتها وذكاء قرائه، وأخطر ما يتعرض له الكاتب هو قابلية « الانحياز» أو الوقوع في فخ الإقصاء الذي قد يدفعه إلى « شيطنة « الآخر او رؤية الحدث بعين واحدة.

‏استرجع الآن ذكرياتي في الدستور، سواء تلك التي تتعلق بالردود والتعليقات على المقالات اليومية او على الصفحة الدينية التي أشرفت عليها لأكثر من عقدين، اعترف هنا بأن اصعب الردود كانت تصلني من المجتمع، السلطة الاجتماعية، اصعب من أي سلطة أخرى، واعترف أيضا بأنني في بداياتي خضت صراعات مع أطراف في « السلطة الدينية»، اما باقي السلطات والمؤسسات فقد كانت العلاقة بين مد وجزر، وكنت دائما احترم رأي الجميع وأقدر ملاحظاتهم وربما اتهاماتهم، ولكنني ازداد قناعة بأنه لا يصح الا الصحيح.

‏أودع « الدستور» وأشكر زملائي الأعزاء كلهم بلا استثناء، فقد طوقوني بمشاعر يصعب علي وصفها، سأبقى ما بقي لي من عمر معتزا بهذه المؤسسة، وبأساتذتي الراحلين والحاضرين، ثم هآنذا انتقل منذ الغد إلى « الغد « الصحيفة والمؤسسة والزمان أيضا، أسأل الله أن يكون « غدنا « أجمل، وبلدنا أقوى وامكن، وقراؤنا الأعزاء بخير على الدوام.